الخميس، 3 أكتوبر 2013

ملاك من أمريكا


كانت المناقشة حامية جداً ، الجميع متحمس ويشترك برأيه فى نظام رغم العدد ال كبير الذى يزيد على خمسمائه شاب ، من الفتيان والفتيات ، أتوا من كل الكنائس المجاورة إلى نيوجيرسى فى أمريكا للمشاركة فى هذا المعسكر الكبير ، وكان حاضراً معنا نيافة " الأنبا موسى " أسقف الشباب . فبدأ بعض الفتيان والفتيات فى طرح أسئلة عن سبب منع التحرر والاختلاط فى الكنيسة ، وعن معارضة حفلات الرقص ... خاصة حفلة التخرج من المدارس الثانوية .
وهاجموا الكنيسة واتهموها بالتشدد وعدم مسايرة الواقع وشعرت بحزن وبمرارة شديدة تجاه هؤلاء الفتيان والفتيات الذين نشأوا فى مجتمع أمريكا المفتوح .
وأحسست بالإحباط واليأس فكيف سأتعامل معهم ، وكيف سأخدمهم وأنا لى أقل من شهر فى الولايات المتحدة الأمريكية ، بالتأكيد سيقولون أنى متخلف أو من كوكب أخر .
- مالك .. متضايق اوى كده ليه ؟
التفت ناحية الصوت ، فوجدت شاباَ أشقر ملامحه غير مصرية ... ولغته العربية ضعيفة .
- اد كده باين عليا .
- أنت زعلان على الأولاد والبنات دول ؟ .
- طبعاً ..
- بلاش تنخدع فى المظاهر .. أغلبية الأولاد والبنات زى الفل .
 نظرت له نظرة تعجب .. ولم أصدق كلامه ، بل اعتبرتها محاولة منه ليواسينى ، وتنبهت لثلاث فتيات أمريكيات قد وقفن وعارضن بشدة الذهاب لحفلات الرقص ، وقلن أنهن لسن مصريات بل هن من أمريكا وولدن بها وعشن فى مدارسها ولكنهن مقتنعات تماماً بتفاهة هذه الحفلات ، لما يحدث فيها من خلاعة لا تناسب أى إنسان محترم .
خجل الفتيان والفتيات المصريون الذين ينادون بالتحرر وتقليد المجتمع الأمريكى ، وتذكرت الآية : 
" إن كثيرون سيأتون من المشارق والمغارب وبتكون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب فى ملكوت السموات " ( مت 8 : 11)  .
عقب " الأنبا موسى " بقراءة جزء من جريدة أمريكية تصدر فى ولايه نيوجيرسى : " تحذير خطير .. امنعوا الزنا وشددوا القوانين وإلا سيفنى كل سكان الولاية بالأمراض الجنسية " .
فالآن بدأ العالم كله ينتبه لخطورة انتشار الأمراض الجنسية خاصة الإيدز ، لأن أعراضه قد لا تظهر فوراً بل بعد عشر سنوات تكون العدوى انتشرت بين كثير من المستهترين الذين لا يلتزمون بالعفة .
وجاءت الاستراحة سريعاً ، فلم أشعر بمُضى الوقت ، ولا بالجوع من كثرة انفعالى وتركيزى مع المناقشات والحوارات المهمة .
- احنا ما تعرفناش .. انا " جرجس لطفى " .
التفت وتذكرت ذلك الشاب الأشقر الجالس بجوارى .
- وانا " مدحت بنيامين " .
- انا أول مرة أشوفك ... إنت أكيد لسه جاى جديد من مصر بس أزاى عرفت تاخد أجازة من شغلك ؟
- بصراحة أنا مش لاقى شغل خالص .
- طيب خد دول خليهم معاك لحد ما تشتغل .
نظرت له فى ذهول وهو يخرج 500 دولار ويضعهم فى جيبى .
- إيه ده 3 .. ده انت ما تعرفنيش !!
- لما تبقى تشتغل ,, ابقى رجعهم .
وتذكرت بحزن موقف بعض الأصدقاء المصريين الذين تخلوا عنى ، ورفضوا مساعدتى فى غربتى .. وهكذا تعرفت على " جرجس " ........
وعلمت أن والده مصرى ووالدته أجنبية ,, و" جرجس " يعيش فى أمريكا ويعمل فى وظيفة كبيرة ، ويُحضر حالياً رسالة دكتوراه فى الكيمياء ...
واكتشفت أنه ليس بخادم أو شخص مسئول أو معروف فى الكنيسة ، ولكنه متطوع .. كل مهمته توصيل أى خادم أو كاهن جاء من منطقة بعيدة للمشاركة فى المؤتمر ...
ذُهلت لما علمت هذا .. فالكل يلهث خلف المال فى عالمنا المادى ، ولم أتوقع أن أجد إنساناً يُضيع وقته هكذا لمجرد هذا العمل البسيط .
ظللت أتحين الفرصة فى الاستراخات للحديث والتعرف على هذا الشباب الغريب ... وكلما تحدثت معه ، أكتشف أنه مملوء بالسلام والهدوء والبساطة والتواضع وحب الله من كل قلبه وعقله .
انتهت أيام المؤتمر ، وأصر " جرجس " أن يصحبنى للبحث عن عمل لى ، وأخذ أجازة خصيصاً من عمله وظل يقود سيارته من مكان لآخر ، ولكنى لم أجد عملاً بسهولة وذلك لضعف لغتى الإنجليزية ..
أصابنى اليأس ، وفكرت فى الرجوع إلى مصر ، ولكن " جرجس " شجعنى ، ورفع من معنوياتى ، وظل يرافقنى فى رحلة البحث عن عمل حتى وفقنى الله أخيراً بعد بحث طويل عن عمل فى محطة بنزين .
وجاء أخيراً يوم الجمعة ، وقبضت أول مرتب ، وأسرعت به 
لـ " جرجس " لأسدد جزء من دينى وأشكره .
ولكنه فتح لى باب منزله وهو يتحدث فى التليفون .. جلست فى الصالة أنتظر أن ينتهى من المكالمة التليفونية ، ولكنه لم ينتبهٍ بسرعة كما توقعت بل أخذ الوقت يمر وكأنه تجاهلنى تماماً .
حاولت أن أصبر وأحتمل ، لكن طول فترة المكالمة التى استغرقت أكثر من ساعة جعنى فى قمة الغضب والتوتر .
 ورغم أننى لا أحب التطفل أو التصنت على أحد ، ولكن نظراً لصغر حجم الشقة الشقة فقد سمعت أجزاءً من الحوار، وفهمت أنه يطيب خاطر شخص ما يمر بمشكلة .
وفعلاً علمت من " جرجس " بعد هذا أنه كان يتحدث مع إنساناً مريضاً نفسياً ، ويُضيع كل هذا الوقت والمجهود لمجرد تهدئته . 
فعرضت عليه أن أسدد جزءاً من المبلغ الذى استعرته منه ، لكنه قال لى ببساطة : " أنت مستعجل ليه .. على مهلك لما أمورك تستقر أبقى ادفع " .. وأصر على ذلك .
وفى مساء يوم السبت ، ذهبت للكنيسة لحضور العشية ، وطلب منى أحد الخدام أن أساعده فى عمل القربان لأن الكنيسة ليست بها عجانة ، لذلك فهو يطلب من بعض الشبان أن يساعدوه . 
فوافقت ، وذهبت لحجرة القربان الساعة الحادية عشر مساءً كما أتفقنا وكانت فى انتظارى مفاجأة أخرى .. إذ وجدت " جرجس " يعجن القربان ، فعلى ما يبدو أنه متخصص فى الخدمات المجهولة ، أو كما يسميها الأباء خدمة غسل الأرجل .
وعرفت بعد هذا أنه ساعد ولد فى الثانوية العامة على المذاكرة .
ويساعد كبار السن فى شراء مستلزماتهم ويوصلهم لأى مكان يريدونه ، كما كان يساعد والده ووالدته الكبار فى السن ، ويصرف على إخوته .
وفى إحدى الأيام ، رأيته بعد القداس ينحنى أمام والده المُسن ليساعده على ارتداء حذائه .
إنى أكتب إليكم اليوم قصة " جرجس " بعد رجوعى من أمريكا .
صدقونى لم يُبهرنى شيئاً فى أمريكا أكثر من هذا الشخص العجيب الذى لن أستطع أن أنساه طول حياتى . وليسامحنى القارىء ، فقد غيرت الأسماء الحقيقية للقصة .
لقد عاش " جرجس " كل حياته فى أمريكا ,, ولكن لم تستطع أمريكا أن تملك على قلبه وعقله فكان ممن " يستعلمون هذا العالم كأنهم لا يستعمولنه " ( 1 كو 7 : 31 )

0 التعليقات:

إرسال تعليق