الخميس، 19 سبتمبر 2013

حياة الفرح الروحى

حياة الفرح الروحى  [ فيلبى 4 : 4 ] نقول: "الفرح المسيحي"، لأن الفرح في المسيح يختلف عن الفرح الذي يعرفه العالم. ففرح العالم علامته السرور الظاهر، ويرتبط بلذة الجسد السطحية والمسرَّات، في الطعام والمال والممتلكات وشهوة الجنس والسلطة وتحقيق الأهداف المتصلة بالعالم الحاضر. وهذا الفرح قصير العمر، وإن تعالَى فهو يفتر بعد حين، وتطوِّح به الهموم والتجارب والهزائم وخوف الغد والأمراض والوحدة وتغيُّر الأحوال واقتراب الموت. والمسيحي في العالم يختبر شيئاً من هذا الفرح في مناسبات كثيرة في الأعياد والحفلات واجتماعات الصحاب. وهو يقبله ويسعد به، ولكنه لا يعوِّل عليه، لأنه يعرف أن هذا يأتي ويذهب. وإنما فرحه الحقيقي، الذي وهبه له الروح بموت الابن وقيامته وملكوته الأبدي، ثابت دائم، تعبُر به صروف الحياة وآلامها (التي تعبُر على كل الناس)، وإنما هو عمل الروح القدس وثمره. إنه فرح في الرب (مز 32: 11؛ 35: 9؛ 100: 2، إش 61: 10، رو 14: 17، في 3: 1؛ 4: 4، 1تس 1: 6، فل 20). حياة الرسل كنماذج للفرح في الروح: والمرء يَدهش عندما يتابع حياة خادم مناضل كالرسول بولس يتعرَّض في خدمته لكل صنوف الآلام والاضطهاد، فضلاً عن شوكة مرض جسده؛ ولكن الفرح لا يُفارقه سواء في سلوكه أو في كتاباته. فهو مع سيلا في السجن لا يطويهما ظلامه وكآبته وأغلاله، وإنما هما قائمان نحو نصف الليل "يصليان ويُسبِّحان الله والمسجونون يسمعونهما" (أع 16: 25). فلم تكن صلاتهما أنيناً خافتاً، وإنما تسبيحاً عالياً مستنداً إلى إله يؤمنان بقوته وانتصاره المحتوم حتى أن السجن تزعزع من أساسه. وهذه مقتطفات من رسائله يُعبِّر فيها عن فرحه كما يحث فيها المؤمنين أن يفرحوا في الرب كل حين، مع أن بعضها يكتبه من السجن أسيراً في سلاسل، أو وهو يُصارع الآلام والاضطهادات:  "كحزانى ونحن دائماً فرحون" (2كو 6: 10)،- "لذلك أُسَرُّ بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح" (2كو 12: 10)،  - "افرحوا في الرب... افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضاً افرحوا" (في 3: 1؛ 4: 4، 1تس 5: 16)،  - "الآن أفرح في آلامي لأجلكم،وأُكمِّل نقائص شدائد المسيح في جسمي لأجل جسده، الذي هو الكنيسة" (كو 1: 24). وها هما القديسان بطرس ويعقوب يحثَّان المؤمنين على الفرح الحقيقي في الروح حتى ولو كانوا يجتازون التجارب: "ذلك وإن كنتم لا ترونه (أي الرب) الآن لكن تؤمنون به، فتبتهجون بفرح لا يُنطق به ومجيد" (1بط 1: 8)، "احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة" (يع 1: 2)


 منابع الفرح المسيحي: 
 1 - التمتُّع بالخلاص والنصرة: إذا كانت الخطية هي مصدر التعاسة والشعور بالإثم وسيادة الظلام، فإنَّ التمتُّع بخلاص المسيح وحضوره ورفقته وعنايته ورعايته كل الأيام، وعمل الروح القدس، هو الينبوع الرئيسي لفرح المسيحي ودوامه.
 2 - السلوك بالإيمان: بمعنى الاتكال على الله والثقة في مواعيده وتسليم كل الحياة له وقبول كل ما يسمح به الله بالشكر، وهو أيضاً أحد منابع الفرح المسيحي. فالذي يتيقن "أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله" (رو 8: 28)، يحيا فَرِحاً، مطمئناً إلى محبة المسيح وتحنُّنه. ولا يستطيع العالم أن يعطيه، قد وهبه الله لمؤمنيه: "سلاماً أترك لكم، سلامي أُعطيكم. ليس كما يُعطي العالم أُعطيكم أنا" (يو 14: 27)، "جاء يسوع في الوسط وقال لهم: سلامٌ لكم" (لو 24: 36، يو 20: 21و26)؛
 3 - من منابع الفرح: التقوى مع القناعة: وهي تجارة عظيمة كما يصفها معلِّمنا القديس بولس (1تي 6: 6)، بينما التطلُّع إلى الغِنَى والرفاهية والطمع لا يجلب سوى الآلام. هنا تأتي التعاسة والهموم ويتوارى الفرح ويُفقد السلام وتتعثَّر العلاقة مع الله. وليس من مُنقذ غير أن يثوب الإنسان إلى رشده ويصحح مساره بالتوبة ويترك العالم لأهله، راضياً بعطايا الله ومعها التقوى وسلوك الإيمان، فـ"ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه" (مت 16: 26، مر 8: 36، لو 9: 25).
 4 - الخروج من الذات: إلى الآخر، عطاءً وخدمةً، أحد منابع الفرح. والرب نفسه قال إنه: "مغبوطٌ هو العطاء أكثر من الأَخْذ" (أع 20: 35). فالأنانية حزن وهمّ وخوف وقلق وفقر إنساني وحرمان من الاتحاد مع الله. بينما الخروج إلى رحابة حب الله والقريب وخدمة الفقير واليتيم والغريب والضيف والسجين والمسنّ والمريض والمُعاق، وضحايا الحروب والمجاعات واضطرابات الطبيعة، هو الطريق إلى إسعاد هؤلاء وتخفيف ويلاتهم، فيأتي الفرح في الحال كمكافأة لا تُقدَّر بثمن.
 5 - التطلُّع إلى الأبدية: هو الينبوع الأبدي للفرح. فالأبدية هي النهاية السعيدة التي تتصاغر أمامها كل آلام الزمان الحاضر التي يصفها القديس بولس أنها "لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلَن فينا" (رو 8: 18). بالتطلُّع دوماً إلى الساعة الأخيرة، حيث الاحتفال بنوال إكليل البر تمجيداً لحياة شاركت المسيح آلامه وحفظت كلمته وذاقت حلاوة عشرته، تعبُر على النفس رياح الهموم والتجارب والأحزان دون أن تخصم شيئاً من رصيد الفرح المستقر في الأعماق ولا تلمس غير سطح الأمواج التي قد تعلو وتهبط، ولكن الفرح والسلام هناك لا يطالهما شيء. المقابلة بين خفة ضيقتنا الوقتية وثِقل المجد الأبدي (2كو 4: 17)، الذين هم خارج دائرة المسيح يظنون أن الحياة المسيحية في أعماقها تتسم بالكآبة والتجهُّم وفي ظنهم أن هذا ما يؤول إليه المسيحي، وهو ينشد تنفيذ الوصية، عندما يكتشف قصوره والبون الشاسع الذي يفصله عن بلوغ أبديته. والمسيحي بالفعل لا يستطيع وحده أن ينفِّذ أصغر الوصايا أو أن يغلب أهواءه ومحبته للعالم، فهذا هو عمل "نعمة الله المخلِّصة لجميع الناس" (تي 2: 11). 

الفرح المسيحي - مع هذا - لا يعرف الهزل أو النكات القبيحة، ولا يجرؤ على كسر الوصية، ولا يتشح بوسائل الفرح المصطنع كالخمر والصخب(1)، ولا بتغييب الوعي بالمخدرات. الإنسان الطبيعي لا يعرف غير الفرح السطحي المفتعل، بينما الهموم لا تفارقه أينما سار مهما اجتهد أن يهرب منها. حياة الفرح المسيحي هي من أعمال النعمة، وهي متاحة لكل مَن يؤمن "فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله" (رو 8: 8). فالمسيحي ليس إنساناً أسطورياً، ولكنه إنسان أدركته نعمة الخلاص، فتغيَّر حاله من البؤس إلى الفرح المجيد

0 التعليقات:

إرسال تعليق